(Go: >> BACK << -|- >> HOME <<)

Share |
يناير 2010
1
سافونارولا (1453- 1498) الدولة والدين
المصدر: الديمقراطية
بقلم:   نبيل فرج


علي الرغم من الجهود الفائقة التي بذلتها الثقافة العربية في دراسة التراث الإنساني قديمه وحديثه، وفي ترجمة الكثير من الآثار الخالدة في مجالات المعرفة والابداع، فلا يزال هذا التراث بحاجة إلي المزيد من الدراسات والترجمات التي تدرس ما لم يدرس، وتترجم مالم يترجم، أو تعيد دراسة وترجمة ما درس وترجم بصورة غير جيدة فمن هؤلاء الذين يستحقون المزيد من الدراسة النقدية، وترجمة أعماله الكاملة التي فقد بعضها، نذكر اسم الراهب الثائر جيرو لامو سافونا رولا فذلك انه باستثناء كتاب الدكتور حسن عثمان "سافونارولا" الذي صدر عن دار الكاتب المصري في 1947 والفصل الذي كتبه كل من لويس عوض في كتابه "ثورة الفكر في عصر النهضة" لمؤسسة الأهرام، 1987) ورمسيس عوض في كتابه "أبرز ضحايا محاكم التفتيش: جاليليو ـ سافونارولا ـ برونو" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، (2005 ) فلم يكتب أحد آخر عن سافونارولا في اللغة العربية وسافونارولا (1452 ـ 1498) أحد الأصوات، أو أول الأصوات، المؤثرة التي خرجت علي العصور الوسطي بكل ما أثقلها من كبت وتقاليد متزمتة، فرضها البابوات علي الحياة الزمنية، أو فرضها نظام الحكم الاستبدادي بالتعاون مع رجال الدين، وحل محلها في عصر النهضة وما بعدها فصل السلطة الدنيوية عن السلطة الدينية، وانطلاق الخيال، ونشوء النزعات الحرة التي تحقق للفرد ذاته وإرادته، وتدافع عن حقوق الشعب فقرأ سافونارولا في طفولته الإنجيل وتأثر بهف ومع أن أسرته هيأته لدراسة الطب فقد أقبل بنهم علي قراءة الفلسفة فلم يجد في الجامعة ما يرضيه بسبب سيطرة الأساتذة علي طلابهم، فانقطع عنها، كما انقطع عن بلاط دوق المدينة التي نشأ فيها، مدينة فيرارا، لكثرة ما شاهده في قصورها من صراعات الأسرة الواحدة، وما تزخر به حياتها من بهرجة وترف ومجون يتجاوز كل حدفاما ما كانت هذه المدينة تقيمه من احتفالات ومهرجانات صاخبة، فقد رأي فيها سافونارولا حيلة لالهاء الشعب وشغله عن التفكير في السياسة والحكم، كما تفعل الدول المعاصرة من حشد الجماهير الغفيرة في مباريات كرة القدم فوتحت تأثير حياة التأمل والوحدة التي آثرها سافونارولا علي الانخراط في الحياة العامة، اتجه إلي الصلاة والطبيعة والموسيقي، متطلعا في أحلامه إلي وطن آخر، كرس حياته من أجله
ولم يكن هناك مخرج له غير الرحيل من فيرارا إلي فلورانسا، والدخول سنة 1475، وهو في سن الثالثة والعشرين، في سلك الرهبنة احتجاجا علي ما في العالم من فساد لايحتمل ويكشف الخطاب الذي كتبه سافونارولا إلي أبيه عقب رحيله عن حزنه الشديد علي غياب الخير والمحبة والتواضع عن العالم وهناك خطاب آخر كتبه سافونارولا إلي أمه، بعد هذا التاريخ بسنوات طويلة، يذكر فيه أنه يعيش في رعاية المسيح بعيدا عن فيرارا، ويهب حياته لخدمة الآخر وتشكل حياة سافونارولا في دير كنسية القديس مرقس في فلورنسا مرحلة أساسية في جهاده، كان لها ما بعدها، أقبل فيها علي قراءة الكتب الدينية والعلمية أثناء تأدية الخدمات لرهبان الدير، أحط أعمال النظافة فيه وكما تتحالف السلطة مع المال في الأزمنة الحديثة، تحالف رجال الدين بزعامة البابا مع الأمراء في هذا التاريخ طمعا في المكاسب المادية، مما كان له أثره في نشوب الحرب الأهلية بين الأحزاب السياسية وفي الأسر الحاكمة، وانتشار الفوضي في كل مكانفوزاد الوضع سوءا الأخطار الخارجية التي كانت تهدد ايطاليا متمثلة في أطماع الدول المجاورة فوقد أتاحت دراسات سافونارولا المتعمقة في فلسفة القدماء وعلي رأسهم أفلاطون ( 428 ـ 348ق م) وأرسطو (384 ـ 322 ق م) ان يفيد من بعض ما قرأه في هذه الفلسفة وإن أخذ علي فلسفة أروسطو ماديتها ف
كما افاد سافونارولا من بعض مفكري العصور الوسطي وفي مقدمتهم توماس الأكويني (1225 ـ 1274) ومن بعض آراء مدرسة الأفلاطونية المحدثة التي تكونت في فلورنسافو بهذه المعرفة رفض سافونارولا مغالاة أهل فلورنسا في التحمس للفلسفة القديمة ومحاكاتها، لأنه يأتي علي حساب الكتاب المقدس والديانة المسيحية وظروف العصر، إضافة إلي أنه يربط العقول بأوتاد الماضي، ويحول دون اتساع آفاقها علي الأفكار الجديدة ومن الشعراء والكتاب القد ماء الذين هاجمهم سافونارولا فرجيل (70 ـ 19 ق م) وهوراس ( 65 ـ 8 ق م) ومن المحدثين هاجم بترارك (1304 ـ 1374) وبوكاشيو (1313 ـ 1357) لأنهم كانوا جميعا علي النقيض من سافونارولا، يقدرون القدماء، ويدعون إلي إحياء أدبهم، وإعادة مجد روما القديم
ويجب ان نعترف بأن سافونارولا لم يكن علي حق في هذا الرفض للتراث القديم، أو في وضعه علي الضفة المقابلة للمسيحية، لأن هذا التراث الذي كان يدرس في الأكاديميات في جنوب ايطاليا وشمالها ساهم مع غيره من العوامل في صنع عصر النهضة، بما بذره من بذور المنهج التجريبي في البحث، وهو المنهج الذي ساعد علي تقدم العلوم الطبيعية حين يتسلح بالنقد فويعد سافونارولا، في المحصلة النهائية من الممهدين لهذا العصر، باعلائه من قيمة العقل والتجربة، في غير تناقض مع الدين ويمكن تلخيص رؤية سافونارولا للدولة في أنه تمسك بالدين والإيمان كقوة روحية سامية لحماية الحقوق وليس كقوة طيعة للظلم والقهر، تتخذ ذريعة أو ستارا للانحلال والفساد ومع أن حياة سافونارولا في الدين كانت هادئة، فقد رأي أن حاجة الجمهور العريض في الخارج إليه أشد من حاجة الدير، لكشف مساوئ العصر، ومخازي الحياة وبانتقال سافونارولا من وراء جدران الدير العالية إلي الحياة العامة اطلع علي أوضاع ما كان يمكن أن يطلع عليها لو أنه ظل في الدير، كا من نتيجتها رفع مشاعله ضد الكنيسة ورجال الحكم الذين لايعملون إلا لمصالحهم الشخصية ومصالح من يتصل بهم، علي حساب العقيدة وحساب الوطن
ويكفي أن نذكر أن الكثير من البابوات ورجال الحكم لم يكونوا يصلون إلي مقاعدهم إلا بالرشوة وتزوير الانتخابات، وكانوا يأخذون بحياة اللهو والبذخ، لا حياة التبتل والتقشف التي يتمسك بها سافونارولا، ويدعو اليها الدين وبينما كانت الضرائب الباهظة التي تفوق طاقة الفقراء تفرض عليهم، كان الأغنياء يعفون منها، ولايطالبون إلا بمبالغ زهيدة، مما دفع سافونا رولا الي أن يقدم اقتراحا بأن تصبح الضرائب علي الدخل تصاعدية حتي تتوفر العدالة في تحصيلها، غير أن اقتراحه قوبل بمعارضة شديدة وفي خطبه ومواعظه هاجم لعب القمار الذي كان يجري بين الآباء في حضور الآبناء وهاجم المرابين واعتبر أن تجنب الآثام في السلوك الشخصي مقدم علي أداء فروض الدين من صلاة وصوم ولاقيمة للصلاة والصوم إلا إذا نبعا من القلب والأعماق ومن آرائه المعنة قوله إن مساعدة الفقراء خير من التبرع للكنائس لشراء التذكارات، وفضيلة الإنسان الكبري هي التواضع حيال كل الطبقات ويذكر لسافونارولا أنه أنقذ مكتبة آل مديتشي من التبديد والضياع، وفتحها للشعب الفلورنسي الذي لم يكن لديه سوي مكتبة واحدة محددة القيمة في دير القديس مرقسفوآل مديتشي أسرة أرستقراطية تقلدت الحكم، ويرجع تاريخها إلي القرن الثاني عشر ولسافونارولا كتابات فلسفية عديدة، وضع بعضها باللاتينية وأكثرها بالايطالية، لاتقل في جمال بيانها عن بيانه في الخطب والمواعظ، عرض فيها لماهيات الأشياء وتكوينها وفسادها، وللطبيعة في تدرجها من الجماد إلي الإنسان عن الإنسان تحدث سافونارولا في هذه المؤلفات عن النفس المرهفة التي تشعر بالمحسوسات المادية والروحية، والنفس النباتية التي تنمو وتتوالد، والنفس الناطقة التي تمكن الانسان من ادراك المجردات في بحثه عن الحقيقة ويتصل بهذا البحث عن النفس نظرية المعرفة التي تبدأ من المعلوم من الحقائق والمباديء والأسباب، وتنتقل إلي المجهول، ومن المرئي إلي غير المرئي، ومن الجزئي إلي الكلي وللحدس مكانه في هذه النظرية كقوة خطرية قادرة علي المعرفة بلا مقدمات وبلا استفراد، حيث أن العلم الحقيقي في نظر سفونارولا هو علم اللاهوت، في حين أن الفلسفة تنقسم إلي قسمين: عقلية ووضعية، ولكل مجاله مجال الفلسفة العقلية المنطق، ومجال الفلسفة الوضعية الأخلاق والاقتصاد والسياسة وما يميز الإنسان عن الحيوان هو الإرادة، والإرادة حرة، فإذا فقدت حريتها بالإملاء والقسر عجزت عن الفعل ولايجد سافونارولا غضاضة في حكم الفرد طالما أن هذا الفرد إنسان فاضل، محمود الخصال ولكن كان بالطبع ضد الحكم الديكتاتوري المطلق وبين أبحاث سافونارولا الهامة بحث في ثلاثة أجزاء عنوانه "نظام الحكم في فلورنسا" يذكر في جزئه الأول أن شعب فرنسا بحاجة إلي حكومة مدنية تنتخب انتخابا شعبيا أي إلي نظام جمهوري، ويبين في جزئه الثاني فساد الحكم المطلق، ويدعو في الجزء الثالث إلي إنشاء مجلس أعظم يحمي الأغلبية من سطوة الأقلية ولأن الخوف عادة ما يكون من الأغلبية علي الأقلية، فإن سافونارولا يقصد هنا العكس، أي خوف الأغلبية الفقيرة الضعيفة من الأقلية الغنية، صاحبة السلطة والنفوذ" وعندما كانت فلورنس تعيد النظر في نظام الحكم، وتبحث شئون الكسب والضرائب علي التجارة والحرف الصناعية التي تضمن العدل، وتصدر القوانين الجديدة الديمقراطية التي تنظم العلاقة بين الدولة والرعية، كان لسافونارولا القدح المعلي بما عرف عنه احتفال بمصلحة الشعب جعل منه أحد المؤسسين للنظم السياسية المعادية لكل أشكال الطغيان "ومصلحة الشعب تعني حسن اختيار العاملين في الوظائف اختياراَ موضوعياَ يتسم بالمساواة، حتي تكون الحكومة وطنية، تسهر علي حماية الممتلكات والأرواح، وتعفو عن المعتقلين المعارضين من أنصار الحكومات السابقة وقد حاول بعض المعاصرين لسافونارولا الايقاع به بايهامه بأنه يملك القدرة علي التنبؤ بالمستقبل، إلا أنه رفض التسليم بذلك علي طول الخط، وقال انه لا يعدو أن يكون دارسا علميا للأحداث، يستخلص منها نتائجها المرتقبة علي ضوء السياق الذي تقع فيه أو تمضي عليه، مع تسليمه أو عدم انكاره لإمكانية منح البشر هذه القدرة علي التنبؤ من قبل الملائكة ومن هذه الاستنتاجات التي آمن بصحتها غضب الله علي الشعب الفلورنسي، واقتراب انزال العقاب والويلات عليه، في الدنيا والآخرة علي ما ارتكب من خطايا وآثام ورغم خضوع سافونارولا التام للكنيسة واستعداده لتصحيح أقواله المدافعة عن الدين والحرية، فقد استطاع خصومه بدوافع سياسية بحتة أن يوغروا صدر البابا عليه، بالادعاء بأن سافونارولا يعمل ضد فلورنسا، وأنه يعرضها للخطر بإثارة الناس وتحريضهم ونشر العقائد الباطلة، فمنعه البابا من الخطابة، خاصة وأن البابا نفسه لم يسلم في هذه الخطب من هجوم سافونارولا المباشر عليه وعلي الدولة وفشلت جميع المحاولات لرأب الصدع بين البابا وسافونارولا ولما اشتد بينهما الصراع بعد أن وصف سافونارولا الكنيسة بأنها كالمرأة التي ترحب بالأغنياء وتقصي الفقراء، ووصف فلورنسا بأنها مغارة لصوص، وضع البابا خطة لعزل ومحاكمة سافونارولا وصدر قرار الحرمان في 13 مايو 1497 لرفضه طاعة البابا، والشك في هرطقته وكان القرار باطلا لأنه لم يمهر بتوقيع كل أعضاء اللجنة الرسولية التي ينص القانون علي اطلاعها عليه، فضلا عن أن القرار كتب بلغة غير جازمة وهدد البابا بأن قرار الحرمان إن لم يطبق علي سافونرولا فلن تسلم منه فلورنسا بأسرها، مما يعرض صناعتها وتجارتها وحرفها للكساد والتوقف
وخوفا من تهديد البابا، ونتيجة لتشويه صورة سافونارولا من جانب أعدائه، ضربت الحكومة عرض الحائط بالقانون، وأصدرت أمرا بنفي سافونارولا، واستخدمت القوة في القبض عليه، ومحاكمته محاكمة غير عادلة، أدين فيها بالاجماع وأثناء محاكمة سافونارولا التي استغرقت أكثر من شهر تعرض في السجن لألوان من التعذيب البدني لا يتحملها بشر، حرفت فيها أقواله وانتحلت حتي يتسني إدانته والحكم باعدامه وكانت التهم الملفقة ادعاء النبوة، والتدخل في شئون الدولة، وبث الرعب من انتقام السماء في نفوس الايطاليين وصباح 23مايو 1489 اقتيد سافونارولا وسط حراسة مشددة إلي ساحة الإعدام الخاصة بجمهور من الغوغاء يحملون الأسلحة والحراب وبعد إعدامه أحرقت جثته، وألقيت بقاياها المتفحمة في مياه النهر